الجمعة، 14 سبتمبر 2012

اللقاء الثاني: الإلحاد أم الدين، أيهما بدأ أولاً؟ ، وما هي أركان الفكر الإلحادي؟



بسم الله الرحمن الرحيم
قبل أن نبدأ،
تلقيت بسعادة تعليقات وردود قراء المقال الأول، وسأعرض أهمها سريعاً مع تعقيب مختصر،
البسملة التي أبدا بها المقال يمكن إعتبارها جزء من الثقافة الشرقية أكثر منها كشف عن مرجعية إسلامية، فحتى غير المسلمين من الأجانب والمقيمين في دولٍ عربية كثيراً ما يستخدمون عبارات مثل "إن شاء الله" و " الحمد لله".

البعض قال إن ذكري لأسماء من تأثرت بهم من الأساتذة والشيوخ دليلٌ على المرجعية الإسلامية والتي حتماً ستظهر في المقال. أحب أن أوضح أني قرأت وإقتنعت بطرح هؤلاء كما اقتنعت بغيرهم من غير المسلمين ولعل من ذكرت هم أناسٌ جمعتني الظروف بلقاء ثلاثة منهم عن قرب، ولكن هذا لا يعني أن هناك ممن قرأت لهم ولم ألتق بهم كان له أثرٌ كبير في تفكيري، أمثال السير/ أنتوني فلو ¹، الذي تحول من الإلحاد إلى الربوبية بعد 60 سنة قضاها في وضع كتب ونظريات ساهمت كثيراً في كتابات الملحدين، ولعله صاحب الفضل في إلقاء الكرة في ملعب المؤمنين بأن عليهم إثبات وجود الإله!، بعد أن كان عبء إنكار وجوده على الملحدين لقرنين من الزمان! ، ورغم هذا أنكر أحد القراء علم الرجل لمجرد أنه تراجع عن إلحاده. وقد كتب قبل وفاته كتاباً يعرض فيه لتجربته من الإلحاد إلى الربوبية إسمه "هناك إله". There is A God ²
عالمٌ آخر هو العالم الأمريكي الشهير فرانسيس كولين³ رئيس مشروع الجينوم البشري، وله كتاب شهير بإسم "لغة الإله" ، ويشغل حالياً منصب عميد معهد الدراسات العلمية بالفاتيكان. فهو بالتأكيد غير مسلم!
ولعل البعض سيتفاجأ أني قد أستشهد بما كتبه تشارلز دارون وستيفين هوكنج في كتاباتهم، ولكننا سنعرض لهذا في حينه.
نقطة أخرى أثارها بعض القراء، وهي مصطلح الإلحاد، كونه ترجمةٌ غير دقيقة للكلمة الإنجليزية Atheism ، فالكلمة حرفياً تعني "اللادينية" وليس الإلحاد، فحرف الـA  والذي يوضع قبل بعد الكلمات الإنجليزية يفيد النفي، وكلمة Theism ترتبط بالأديان، فمن أين جاء لفظ "الإلحاد"؟
الإلحاد في اللغة هو الميل عن القصد. (لسان العرب، مادة لحد).
وكلمة إلحاد إصطلاحاً هي وصف للموقف الفكري الذي لايؤمن بوجود إله واعي ذكي ومتصف بالقدرة والعلم والإرادة المطلقة (إله أو آلهة).
سؤال: لماذا لا تُستخدم كلمة "لاديني" بدلاً من "ملحد"؟
اللادينية هي إنكار وجود الأديان، سواء سماوية أو أرضية، وهي تشمل الربوبيون (من يؤمنون بإله دون دين)، واللاأدرية، ومن أنكروا وجود الإله. وعليه فهو مصطلح يحمل في طياته معاني كثيرة، وإن كان ولابد من وجود بديل للفظ "إلحاد" في اللغة العربية، فيمكن أن يكون "اللاربوبية"، وهي إنكار وجود الإله، ولكن تبقى كلمة "إلحاد" هي الأكثر شيوعاً حتى بين الملحدين العرب أنفسهم!
فاللادينية مصطلح عام، والإلحاد خاص بمن ينكرون وجود الإله، فكل ملحد هو لاديني بالضرورة، ولكن العكس غير صحيح، فالربوبي الذي يؤمن بإله خالق، دون أن يتواصل معه بأي دين، هو لاديني، ولكنه ليس ملحد، والجدير بالذكر هنا أن السير/ أنتوني فلو، قد مات وهو ربوبي، ولكنه رفض الأديان السماوية كوسيلة تواصل بيننا وبين الإله، وإن كان قال قبل وفاته أنه في إنتظار أن يسمع صوت هذا الإله ويتواصل معه!
يبقى سؤال مثير نوعاً ما: هل وجود الإله شرط في البناء الفكري لجميع الأديان؟، بمعنى آخر: هل يوجد دين دون وجود إله؟ .. سنعرف هذا لاحقاً!

===================================
والآن إلى اللقاء الثاني، وسأحاول أن أكون مختصراً قدر الإمكان في هذه السلسلة.


اللقاء الثاني: الإلحاد أم الدين، أيهما بدأ أولاً؟ ، وما هي أركان الفكر الإلحادي؟

تذكر كارين أرمسترونج في كتابها "تاريخ الإله" أن البداية الحقيقية للمنهج الإلحادي كفكر له أركان وفلسفة واضحة كانت مع نهايات القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت إنحسار لدور الدين متمثلاً في الكنيسة الغربية أمام صعود سريع لتيار العلم الحديث والتطور التكنولوجي. فهذه الفترة من التاريخ شهدت ميلاد عقول بشرية مؤثرة أمثال كارل ماركس (إقتصاد وسياسة)، و تشارلز دارون (علوم)، و فريدريك نيتشه (فلسفة)، و سيجموند فرويد (طب نفسي)، وغيرهم ممن حاولوا وضع تفسيرات علمية للظواهر الإجتماعية والعلمية والنفسية الإقتصادية، بحيث تستغني عن وجود الإله!
لماذا كان هذا الإتجاه؟ الأغلب أن الموقف الذي إتخذته الكنيسة الكاثوليكية ضد معارضيها بدءاً من إنشاء لجنة لمحاربة الهرطقة في 1184م حيث كانت تحرق من تتهمه بالهرطقة (تعبير يصف أي مبتدع في الدين بما يخالف أصل الدين كما تفهمها الكنيسة)، مروراً بالحروب الصليبية والضحايا البشرية الكبيرة التي وقعت بإسم الرب، ثم خلافاتها الشهيرة مع العلماء أمثال جاليليو وكوبرنيكوس، ممن كانت لهم إجتهادات علمية رأت الكنيسة أنها تناقض ما ورد في الكتاب المقدس.

ما الذي حدث بإختصار؟
لاحظ الإنسان ظواهر الحياة من مرض وزلازل وموت، وظواهر فلكية كدوران الشمس والقمر، وغيرها، وبحث عن تفسير لها.

قدم الدين – متمثلاً في الكنيسة الكاثوليكية – تفسيراً دينياً وغيبياً لهذه الظواهر يربطها بالإله، فهو يرسل الأمراض عقاباً لمن عصاه، ويصيب الخطاة بالزلازل والبراكين.

قدم الكتاب المقدس تصوراً عن الأرض بأنها ثابتة وهي مركز للكون، وأن خلق الكون حدث سنة 4004 قبل الميلاد، وهاجمت الكنيسة أي معارض أو مشكك لهذا التصور.

وفي المقابل بدأ العلماء في البحث ومحاولة فهم الكون والحياة ووضع تفسيرات "علمية" لها، وهنا ظهرت فكرة "إله سد الفجوات"، وهي بإختصار شديد: وضع "الإله" كسبب لأي ظاهرة يعجز العلم عن تفسيرها، وعندما يقدم العلم تفسيراً لها، نحذف الإله ونضع العلم، وهكذا حتى يأتي اليوم الذي لا يبقى وجود لـ "الإله" ليملأ أي "فجوة" علمية، ولكن هل سيحدث هذا؟.  ⁹
برجاء ملاحظة أن التفسير الغيبي الديني كان يجاوب في معظمه على سؤال "لماذا"، في حين أن التفسير العلمي حاول الإجابة عن سؤال "كيف".. وهذا فارق جوهري بين العلم والدين أو الفلسفة، ففكرة الغائية "لماذا" لا مجال للعلم فيها.. فمهمة العلم الحديث هي البحث عن الآلية "كيف"، وليس فهم العلّية "لماذا"..، 

ولكن على الرغم من هذا، تم وضع العلم مقابل فكرة الإله، فكان أي فهم لكيفية حدوث ظاهرة ما، وحتى التحكم فيها، يساوي عند البعض الإستغناء عن الدين! في حين أن فهم الكيفية لا يفسر الغائية؟!، ففهمي لكيفية حركة يدي (إرسال المخ لإشارات عصبية تصل لعضلات اليد بتتابع معين فتنقبض بشكل خاص، لا علاقة له بـ "لماذا فعلت هذا؟" هل لأضرب إنسان أم أرفع الأذى عنه؟.

المهم، مع تتابع الإكتشافات العلمية، والتي أثبتت خطأ التفسير الديني عندما حاول الإجابة عن الكيفية بتفسير بدا ساذجاً في معظمه، عندما حدث هذا فقد الناس إيمانهم بمن يمثل الدين (المفسرون)، ثم بالدين نفسه ثم بالإله!، حيث قدم العلم رؤية مترابطة ومدعّمة بالأدلة لفهم أفضل لكيفية عمل الكون والحياة، وبالتالي إنتفت الحاجة لوجود الإله، فالأمراض تحدث بسبب الجراثيم، وبحث العلم عن علاج لها ونجح، والزلازل تحدث لأسباب جيولوجية، نجح العلم في تفسيرها وفهمها، والتعامل إلى حدٍ ما مع آثارها، 
ولكن العلم لم يقدم أجوبة للأسئلة الغائية أو العلّية : "لماذا يحدث هذا؟".

وفي المقابل، إعتقد البعض، مثل الشاعر وليام بليك (1757-1827م) أن الدين كان سبباً في شقاء البشرية، وأنه سنّ قوانين لا تتماشى مع الطبيعة الإنسانية، وأفقد الإنسان حريته في تغيير الواقع (حيث أن كل ما يحدث هو بإرادة الإله وإختياره، فلا مفر منه!).10
وبدأ العلماء في وضع تفسير لنشأة الدين، فقال الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860م) أن الدين صناعة بشرية لتفسير الظواهر المجهولة، ولتنظيم حياة مجموعة بشرية كيفما يرى مؤسس هذا الدين. 11
وقال الفيلسوف نيتشه كلمته الشهيرة "لقد مات الإله"! ، وإعتبر كارل ماركس أن الدين أفيون الشعوب، فهو يخدر البسطاء بأن الإله يريد لحياتهم أن تسير كما هي، وسيعوضهم في الآخرة، فما الداعي للعمل. 12

بينما قال الطبيب الشهير فرويد أن البشرية إحتاجت في طفولتها لما أسماه وهم الدين، كمحاولة من اللاوعي للوصول إلى الكمال في شخصية أبوية خارقة وكاملة ومطلقة، فكان الإله! 13

وسواء إتفقنا أم إختلفنا مع هذا الطرح، فالواضح من كلام هؤلاء أن نشأة الدين سابقة على ظهور الإلحاد!، وعندما نقول "الدين" فنعني أي منظومة دينية كما أسلفنا، فعبادة الكواكب أو الشمس، أو عبادة مئات الآلهة التي تتصارع، أو حتى عبادة أوثان من حجر، فهذا أو ذاك هو دين، ولا يمكن وصفه بالإلحاد بمعنى إنكار وجود إله؟
فكيف إذاً نشأ الدين؟

نشــــأة الديـــن 14

هناك فكرتان رئيسيتان:
1)  فكرة التطور (من الأدنى للأعلى)
a.   تطور بشكل فردي (مفهوم ديني يناسب كل فرد)
b.  تطور بشكل جمعي (مفهوم ديني تتفق عليه مجموعة بشرية)
2)  فكرة الوحي الأول (من الأعلى للأدنى)
وباختصار، فأنصار نظرية تطور الأديان يرون أنه كما فسّر التطور البيولوجي نشوء الحياة والإنسان، فالتطور الإجتماعي يفسر نشوء الدين كظاهرة إجتماعية، سواء كان خاصاً بفهم كل فرد، أو إتفاق مجموعة بشرية على نمط من العبادات والطقوس.

أما أنصار نظرية الوحي الأول، فيعتمدون على فكرة "فطرة الإله"،ثم الوحي الإلهي، حيث أن هناك نزعة بشرية لعبادة كائن أسمى كليّ القدرة وكليّ العلم، ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدارس لجميع الأديان حتى أقدمها في الظهور، يرى أن بها تعقيداً وتشابكاً لا يتفق إطلاقاً مع العقلية البدائية! وأن بها آراء لم تتكون إلا بعد تطور طويل وعميق.

فالدين حسب النظرية الأولى (التطور) هو صناعة بشرية، سواء كانت جمعية أو فردية. أما في النظرية الثانية، فهو منحة إلهية منفصلة عن الإنسان، زرعت فيه فطرة البحث عنه، وألهمته السبيل لذلك.

وينبغي ملاحظة أن أغلب الحضارات لم تخلو من معابد ومقابر! وكأن الإنسان الأول كان منشغلاً بهذا الإله؛ يحاول التقرب إليه، ويستعد للقائه في العالم الآخر!

وعليه، فنشأة الدين سحيقة وقديمة، بينما ظهر الإلحاد كمنهج فكري يقوم على إنكار وجود الإله، ظهر متأخراً جداً على مسرح التاريخ الفكري البشري.

فحتى رمز الشر في الأديان الإبراهيمية؛ إبليس أو الشيطان، لم يكن ملحداً! فهو لم ينكر وجود الإله، بل عارضه ورفض الانصياع له.
وينبغي عدم الخلط بين موقف بعض الفلاسفة كأرسطو، والذي أنكر القيوميّة (رعاية الإله لخلقه)، وبين الإلحاد، فهو لم ينكر وجود الإله، ولكنه تصوّره إله سامي عن خلقه، ولا يشغل نفسه إلا بما يليق بذاته، وهو ذاته نفسها! 15

ننتقل الآن للجزء الثاني ، وهو أركان الفكر الإلحادي.

ذكرنا في اللقاء السابق ثلاثة أركان أساسية يقوم عليها مذهب الإلحاد:
1)  معضلات فلسفية: تشمل على سبيل المثال لا الحصر أسئلة مثل:
a.   لماذا يحاسبني الإله إذا كان قد خلق أفعالي؟
b.  هل أنا مخير أم مسير؟
c.    لم يأخذ الإله موافقتي على هذه الحياة وهذا الإختبار!
d.  معضلة الجحيم: كيف تستوي رحمة الله أو حتى عدله في أن يخلد شخص في الجحيم، حتى لو قضى عمره كله في ذنوب وخطايا؟
e.   ولكن أشهرها على الإطلاق "معضلة الشر"، وتعني أن علم الإله ورحمته وقدرته المطلقة لا تتفق مع وجود الشر، فإن كان يعلم وجوده، ولا يستطيع منعه فهو ليس بقادر، وإن كان يستطيع منعه ولا يريد فهو ليس برحيم، وإن كان لايعلم فهو ليس بعليم، وفي كل الأحوال هو ليس بإله! وتعرف أيضاً بمعضلة أبيقور 16... ويذكر السير أنتوني فلو أن معضلة الشر كانت من أهم الأسباب التي دفعته للإلحاد منذ صغره، ووضع تفسيراً فلسفياً لها بعد إيمانه في آخر حياته بوجود إله، سنتطرق إليه في اللقاء القادم.
2)  خلق الكون: علوم الفلك والفيزياء توصلت لقوانين ونظريات لنشأة الكون وطريقة عمله، يعتقد الملاحدة أنها لا تحتاج لوجود "إله" لتفسيرها، وأشهر من يمثل هذه الجانب، عالم الفيزياء الإنجليزي ستيفين هوكنج، ووضع خلاصة فكره في هذا المجال في كتابه التصميم العظيم The Grand Design 17
3)  خلق الحياة: الفكر الديني التقليدي يقول بالخلق الخاص، ولكن العلم أثبت صحة مفهوم التطور (سنتعرض لاحقاً للفرق بين مفهوم التطور ونظرية التطور الدارويني)، وعلى مستويات عدة؛ وقدمت لذلك أدلة من علوم الأحافير، والتشريح، وعلم الجينات، وأغلب – إن لم يكن كل – الهيئات العلمية المحترمة في العالم المتقدم الآن تعتقد بأن نظرية التطور هي أفضل ما توصل إليه العلم لتفسير نشأة الحياة، ولا تكاد أي هيئة علمية تذكر أي شئ عن الخلق الخاص أوالمباشر، حيث أنه بلا أي سند علمي – حتى الآن!، ومن أشهر علماء العصر الحديث في هذا المجال ريتشارد دوكنز 18 عالم الأحياء البريطاني، والذي يصفه البعض بأكبر المدافعين عن الإلحاد ، وله عدة كتب، أشهرها "وهم الإله" ، و "الجينوم الأناني" ، و "صانع الساعات الأعمى".

وسنتحدث في اللقاء القادم عن المعضلات الفلسفية، ونُفصّل في أشهرها وهي معضلة الشر.

وشكراً جزيلاً على وقتكم،،
د. أحمد جلال


المراجع:
5)  موقع لسان العرب: http://www.lesanarab.com/
14)نشأة الدين – النظريات التطورية والمؤلِّهة. أ.د/ علي سامي النشَّار. دار السلام – القاهرة.

هناك 3 تعليقات:

  1. كيف تكون المعضلات الفلسفية ركن من أركان الفكر الإلحادي كما جاء في وصفك؟
    هذه المعضلات تكون موجودة في الدين نفسه و تكون مختلفة بختلاف الدين.

    وشكرا

    ردحذف
    الردود
    1. الملحدون يتحدثون عن أن هذه المعضلات كانت سبب إلحاد بعضهم، لأنهم يرونها دليلاً على عدم وجود الإله الرحيم -من وجهة نظرهم.
      سنتطرق لهذه النقطة بالتفصيل في النقال القادم.

      حذف
  2. ممكن تجاوب على المعضلات الفلسفية ( c & d ) لأن بصراحة شغلوا فكري و مش ملاقية جواب .. لو سمحت

    ردحذف